العمل الاجتماعي قديما و حديثا: فاس نموذجا

 

عرف العمل الاجتماعي تطورا كبيرا في العصر الراهن، عند ظهور الحداثة الأوربية، و مع تطور الحياة المعاصرة، و تعقد العلاقات الاجتماعية، و ازدهار الرأسمالية، إضافة إلى ما خلفته الثورات الاجتماعية، و الحروب الكبيرة التي عاشتها أوروبا خاصة في القرون المتأخرة، فظهر فلاسفة و باحثون الذين اهتموا بالمسألة الاجتماعية، و نظروا للهندسة الاجتماعية من أجل إيجاد حلول للمشاكل التي خلفتها الحياة الاجتماعية المعقدة التي خلفها المجتمع الصناعي الحديث، و أفرزتها المشاكل الاجتماعية العويصة كالحروب و الثورات و غيرها..

و مع احتكاك الثقافة العربية بالثقافة الغربية إبان الاستعمار و بعده، و مع البعثات الطلابية إلى هناك، و اطلاع هؤلاء على أوجه الثقافة المعاصرة، و التنظيمات الإدارية المعاصرة هناك، خلف كل ذلك لدى بعض هؤلاء نوع من الإعجاب بمظاهر الحضارة الغربية بكل تجلياتها، و ازدراء لكل مظاهر الثقافة و التنظيم في الحضارة العربية التقليدية العتيقة، و دعوتهم إلى ضرورة الأخذ بأوجه الحداثة الغربية من أجل تحقيق نهضة لمسايرة العصرو الخروج من التخلف.

ليس هذا موضوعنا، و إنما نريد تسليط بعض الضوء على العمل الاجتماعي بالمجتمع العربي الإسلامي منذ القديم و الأوجه التي تجلى فيها,

و منذ الوهلة الأولى نقول إن أعظم تجليات العمل الاجتماعي في العالم الإسلامي هو الوقف، حيث عمل أغنياء المسلمين على وقف بعضا من ممتلاكاتهم عن طيب خاطر طلبا لرضا الله و حسن جزائه في الآخرة، لخدمة فئة معينة من الناس كالحجاج مثلا، أو المحتاجين، أو عامتهم كشق بعض الطرق أو حفر آبار للشرب و السقي و غير ذلك.

و من أهم من استفاد من الوقف التعليم، حيث إن التعليم بكل مستوياته كان يمول من الوقف و ليس من أي جهة رسمية ربما على امتداد العالم الإسلامي.

و كمثال على ذلك، النخيل الذي أوقفه عثمان بن عفان الذي ما زال مفعوله ساريا لحد يوم الناس هذا.. و كذلك الآبار التي حفرتها زبيدة زوجة هارون الرشيد على طريق الحجاج ليسقوا منها و يشربوا.

و لننتقل إلى مدينة فاس كنموذج للمدينة العربية الإسلامية بالمغرب، و نذكر بعض أشكال الوقف و العمل الاجتماعي المرتبط بها. فقد تجلى هذا العمل في أشكال مختلفة، و لنذكر منها:

حانوت النبي: قرب ضريح المولى إدريس من ناحية "باب لوفا"، حيث كانت تودع بهذا الكان أواني فخارية من مختلف الأشكال، فإذا ذهب المتعلم لملء برادة  و انكسرت له، ما عليه سوى أن يحضر بعض أجزائها إلى هذا المحل ليأخذ شبيها لها كي لا يعاقب من طرف المعلم.

دار العرايس: هي دار تقع في زقاق بين حومة العيون و حومة عين البغل، أوقفها مالكها الأول محلا لإقامة أعراس الفتيات الفقيرات، حيث تزود بتجهيزات التزيين.

و يفرض ذلك حتى المالك الموالي إذا ما بيعت هذه الدار.

الوقف تعدى خدمة الإنسان إلى الحيوان، حيث تم وقف بعض الممتلكات لخدمة طائر اللقلاق الذي كان معروفا برحلاته الطويلة، فإذا تعرض واحد منهم لعارض صحي، يعالج بالبيمارسان الذي كان متوفرا آنذاك.

- هناك مسجد بفاس يعرف بمسجد الأبارين، كان يجلس ببابه شيوخ الحي معروفون برجاحة العقل و سداد الرأي، و كل من له مشكلة يعرضها عليهم قصد مساعدته على إيجاد حل لها، و بالشكل الذي يلائم كل مشكلة على حدة (يمكن إدراج هذا ضمن ما يصطلح عليه حاليا بالتوجيه و الإرشاد).

و هكذا يتبين أن العمل الاجتماعي قد عرف بالعالم العربي و الإسلامي، و أن العقيدة الإسلامية قد حثت عليه عن طريق فرض الزكاة، و الحث على البذل و العطاء و التصدق تقربا إلى الله تعالى، و هذا هو العمل الذي ينفع و يدوم، أي العمل الذي ينبع من الروح و لا ينتظر مقابلا إلا رضى الله عز و جل.

نعم، يمكن الاستفادة من الأشكال المعارصرة و تطوير العمل الأصيل من أجل تحقيق نتائج أكثر نجاعة..

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-